فصل: ذكر وقعة ذي قار وسببها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك ابنه هرمز بن أنوشروان:

وكانت أمه ابنة خاقان الأكبر، وكان هرمز بن كسرى أديباً ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، وكان في نفسه مثل ذلك، وكان عادلاً بلغ من عدله أنه ركب ذات يوم إلى ساباط المدائن فاجتاز بكروم، فاطلع أسوار من أساورته في كرم وأخذ منه عناقيد حصرم، فلزمه حافظ الكروم وصنع، فبلغ من خوف الأسوار من عقوبة كسرى هرمز أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب عوضاً من الحصرم فتركه.
وقيل: كان مظفراً منصوراً لا يمد يده إلى شيء إلا ناله، وكان داهياً ردي النية قد نزع إلى أخواله الترك، وإنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل، ولم يكن له رأي إلا في تالف السفلة. وحبس كثيراً من العظماء وأسقهم وحط مراتبهم وحرم الجنود، ففسد عليه كثير ممن كان حوله، وخرج عليه شاية ملك الترك في ثلاثمائة ألف مقاتل في سنة ست عشرة من ملكه، فوصل هراة وباذغيس، وأرسل إلى هرمز والفرس يأمرهم بإصلاح الطرق ليجوز إلى بلاد الروم. ووصل ملك الروم في ثمانين ألفاً إلى الضواحي قاصداً له، ووصل ملك الخزر إلى الباب والأبواب في جمع عظيم، فإن جمعاً من العرب شنوا الغارة على السواد. فأرسل هرمز بهرام خشنش، ويعرف بجوبين، في اثني عشر ألفاً من المقاتلة اختارهم من عسكره، فسار مجداً وواقع شايه ملك الترك فقتله برمية رماها واستباح عسكره، ثم وافاه برموده بن شايه فهزمه أيضاً وحصره في بعض الحصون حتى استسلم، فأرسله إلى هرمز أسيراً وغنم ما في الحصن، فكان عظيماً.
ثم خاف بهرام ومن معه هرمز فخلعوه وساروا نحو المدائن وأظهروا أن ابنه أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، وكان غرض بهرام أن يستوحش هرمز من ابنه أبرويز ويستوحش ابنه منه فيختلفا، فإن ظفر أبرويز بأبيه كان أمره على بهرام سهلاً، وإن ظفر أبوه نجا بهرام والكلمة مختلفة فينال من هرمز غرضه، وكان يحدث نفسه بالاستقلال بالملك. فلما علم أبرويز ذلك خاف أباه فهرب إلى أذربيجان، فاجتمع عليه عدة من المرازبة والأصبهبذين، ووثب العظماء بالمدائن، وفيهم بندويه وبسطام خالا أبرويز، فخلعوا هرمز وسلموا عينيه وتركوه تحرجاً من قتله، وبلغ أبرويز الخبر فأقبل من أذربيجان إلى دار الملك.
وكان ملك هرمز إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر، وقيل: اثنتي عشرة سنة، ولم يسلم من ملوك الفرس غيره لا قبله ولا بعده.
ومن محاسن السير ما حكي عنه أنه لما فرغ من بناء داره التي تشرف على دجلة مقابلة المدائن عمل وليمة عظيمة وأحضر الناس من الأطراف، فأكلوا، ثم قال لهم: هل رأيتم في هذه الدار عيباً؟ فكلهم قال: لا عيب فيها. فقام رجل وقال: فيها ثلاثة عيوب فاحشة، أحدها: أن الناس يجعلون دورهم في الدنيا وأنت جعلت الدنيا في دارك، فقد أفرطت في توسيع صحونها وبيوتها فتتمكن الشمس في الصيف والسموم فيؤذي ذلك أهلها ويكثر فيها في الشتاء البرد، والثاني أن الملوك يتوصلون في البناء على الأنهار لتزول همومهم وأفكارهم بالنظر إلى المياه ويترطب الهواء وتضيء أبصارهم، وأنت قد تركت دجلة وبنيتها في القفر، والثالث أنك جعلت حجرة النساء مما يلي الشمال من مساكن الرجال، وهو أدوم هبوباً، فلا يزال الهواء يجيء بأصوات النساء وريح طيبهن، وهذا ما تمنعه الغيرة والحمية.
فقال هرمز: أما سعة الصحون والمجالس فخير المساكن ما سافر فيه البصر، وشدة الحر والبرد يدفعان بالخيش والملابس والنيران، وأما مجاورة الماء فكنت عند أبي وهو يشرف على دجلة فغرقت سفينة تحته فاستغاث من بها إليه وأبي يتأسف عليهم ويصيح بالسفن التي تحت داره ليلحقوهم، فإلى أن لحقهم غرق جميعهم، فجعلت في نفسي أنني لا أجاور سلطاناً هو أقوى مني، وأما عمل حجرة النساء في جهة الشمال فقصدنا به أن الشمال أرق هواء وأقل وخامة، والنساء يلازمن البيوت، فعمل لذلك، وأما الغيرة فإن الرجال لا يخلون بالنساء، وكل من يدخل هذه الدار إنما هو مملوك وعبد لقيم، وأما أنت فما أخرج هذا منك إلا بغض لي، فأخبرني عن سببه.
فقال الرجل: لي قرية ملك كنت أنفق حاصلها على عيالي فغلبني المرزبان فأخذها مني فقصدتك أتظلم منذ سنتين فلم أصل إليك، فقصدت وزيرك وتظلمت إليه فلم ينصفني، وأنا أؤدي خراج القرية حتى لا يزول اسمي عنها، وهذا غاية الظلم أن يكون غيري يأخذ دخلها وأنا أؤدي خراجها.
فسأل هرمز وزيره فصدقه وقال: خفت أعلمك فيؤذيني المرزبان. فأمر هرمز أن يؤخذ من المرزبان ضعف ما أخذ وأن يستخدمه صاحب القرية في أي شغل شاء سنتين، وعزل وزيره، وقال في نفسه: إذا كان الوزير يراقب الظالم فالأحرى أن غيره يراقبه، فأمر باتخاذ صندوق، وكان يقفله ويختمه بخاتم ويترك على باب داره وفيه خرقٌ يلقى فيه رقاع المتظلمين، وكان يفتحه كل أسبوع ويكشف المظالم، فأفكر وقال: أريد أعرف ظلم الرعية ساعة فساعة، فاتخذ سلسلة طرفها في مجلسه في السقف والطرف الآخر خارج الدار في روزنة وفيها جرس، وكان المتظلم يحرك السلسلة فيحرك الجرس فيحضره ويكشف ظلامته.

.ذكر ملك كسرى أبرويز بن هرمز:

وكان من أشد ملوكهم بطشاً وأنفذهم رأياً، وبلغ من البأس والنجدة وجمع الأموال ومساعدة الأقدار ما يبلغه ملك قبله، ولذلك لقب أبرويز، ومعناه المظفر، وكان في حياة أبيه قد سعى به بهرام جوبين إلى أبيه أنه يريد الملك لنفسه، فلما علم ذلك سار إلى أذربيجان سراً، وقيل غير ذلك، وقد تقدم، فلما وصلها بايعه من كان بها من العظماء واجتمع من بالمدائن على خلع أبيه، فلما سمع أبرويز بادر الوصول إلى المدائن قبل بهرام جوبين فدخلها قبله ولبس التاج وجلس على السرير، ثم دخل على أبيه، وكان قد سلم، فأعلمه أنه بريء مما فعل به، وإنما كان هربه للخوف منه، فصدقه وسأله أن يرسل إليه كل يوم من يؤنسه وأن ينتقم ممن خلعه وسلم عينيه، فاعتذر بقرب بهرام منه في العساكر وأنه لا يقدر على أن ينتقم ممن فعل به ذلك إلا بعد الظفر ببهرام.
وسار بهرام إلى النهروان وسار أبرويز إليه، فالتقيا هناك، ورأى أبرويز من أصحابه فتوراً في القتال فانهزم ودخل على أبيه وعرفه الحال فاستشاره، فأشار عليه بقصد موريق ملك الروم، وجهز ثانياً وسار في عدة يسير فيهم خالاه بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام، فلما خرجوا من المدائن خاف من معه أن بهرام يرد هرمز إلى الملك ويرسل إلى ملك الروم في ردهم فيردهم إليه، فاستأذنوا أبرويز في قتل أبيه هرمز فلم يحر جواباً، فانصرف بندويه وبسطام وبعض من معهم إلى هرمز فقتلوه خنقاً، ثم رجعوا إلى أبرويز وساروا مجدين إلى أن جاوزوا الفرات ودخلوا ديراً يستريحون فيه، فلما دخلوا غشيتهم خيل بهرام جوبين ومقدمها رجل اسمه بهرام بن سياوش، فقال بندويه لأبرويز: احتل لنفسك. قال: ما عندي حيلة! قال بنديوه: أنا أبذل نفسي دونك، وطلب منه بزته فلبسها، وخرج أبرويز ومن معه من الدير وتواروا بالجبل، ووافى بهرام الدير فرأى بندويه فوق الدير عليه بزة أبرويز، فاعتقده هو وسأله أن ينظره إلى غد ليصير إليه سلماً، ففعل، ثم ظهر من الغد على حيلته فحمله إلى بهرام جوبين فحبسه. ودخل بهرام جوبين دار الملك وقعد على السرير ولبس التاج، فانصرفت الوجوه عنه، ولكن الناس أطاعوه خوفاً، وواطأ بهرام بن سياوش بندويه على الفتك ببهرام جوبين، فعلم بهرام جوبين بذلك فقتل بهرام وأفلت بندويه فلحق بأذربيجان. وسار أبرويز إلى إنطاكية وأرسل أصحابه إلى الملك، فوعده النصرة وتزوج أبرويز ابنة الملك موريق، واسمها مريم، وجهز معه العساكر الكثيرة، فبلغت عدتهم سبعين ألفاً فيهم رجل يعد بألف مقاتل، فرتبهم أبرويز وسار بهم إلى أذربيجان، فوافاه بندويه وغيره من المقدمين والأساورة في أربعين ألف فارس من أصبهان وفارس وخراسان، وسار إلى المدائن. وخرج بهرام جوبين نحوه، فجرى بينهما حرب شديدة، فقتل فيها الفارس الرومي الذي يعد بألف فارس، ثم انهزم بهرام جوبين وسار إلى الترك، وسار أبرويز من المعركة ودخل المدائن وفرق الأموال في الروم، فبلغت جملتها عشرين ألف ألف فأعادهم إلى بلادهم.
وأقام بهرام جوبين عند الترك مكرماً، فأرسل أبرويز إلى زوجة الملك وأجزل لها الهدية من الجواهر وغيرها، وطلب منها قتل بهرام، فوضعت عليه من قتله، فاشتد قتله على ملك الترك، ثم علم أن زوجته قتلته فطلقها. ثم إن أبرويز قتل بندويه، وأراد قتل بسطام فهرب منه إلى طبرستان لحصانتها، فوضع أبرويز عليه فقتله.
وأما الروم فإنهم خلعوا ملكهم موريق بعد أربع عشرة سنة من ملك أبرويز وقتلوه وملكوا عليهم بطريقاً اسمه فوقاس، فأباد ذرية موريق سوى ابن له هرب إلى كسرى أبرويز، فأرسل معه العساكر وتوجه وملكه على الروم وجعل على عساكره ثلاثة نفر من قواده وأساورته، وأما أحدهم فكان يقال له بوران، وجهه في جيش منها إلى الشام، فدخلها حتى انتهى إلى البيت المقدس فأخذ خشبة الصليب التي تزعم النصارى أن المسيح، عليه السلام، صلب عليها فأرسلها إلى كسرى أبرويز، وأما القائد الثاني فكان يقال له شاهين، فسيره في جيش آخر إلى مصر، فافتتحها وأرسل مفاتيح الإسكندرية إلى أبرويز، وأما القائد الثالث، وهو أعظمهم، فكان يقال له فرخان، وتدعى مرتبته شهربراز، وجعل مرجع القائدين الأولين إليه، وكانت والدته منجبة لا تلد إلا نجيباً، فأحضرها أبرويز وقال لها: إني أريد أن أوجه جيشاً إلى الروم استعمل عليه بعض بنيك فأشيري علي أيهم أستعمل. فقالت: أما فلان فأروغ من ثعلب وأحذر من صقر، وأما فرخان فهو أنفذ من سنان، وأما شهربراز فهو أحلم من كذا. فقال: قد استعملت الحليم، فولاه أمر الجيش، فسار إلى الروم فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع أشجارهم وسار في بلادهم إلى القسطنطينية حتى نزل على خليجها القريب منها ينهب ويغير ويخرب، فلم يخضع لابن موريق أحد ولا أطاعه، غير أن الروم قتلوا فوقاس لفساده وملكوا عليهم بعده هرقل، وهو الذي أخذ المسلمون الشام منه.
فلما رأى هرقل ما أهم الروم من النهب والقتل والبلاء تضرع إلى الله تعالى ودعاه، فرأى في منامه رجلاً كث اللحية رفيع المجلس عليه بزة حسنة، فدخل عليهما داخل فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل: إني قد أسلمته في يدك؛ فاستيقظ، فلم يقص رؤياه، فرأى في الليلة الثانية ذلك الرجل جالساً في مجلسه وقد دخل الرجل الثالث وبيده سلسلة، فألقاها في عنق ذلك الرجل وسلمه إلى هرقل وقال: قد دفعت إليك كسرى برمته فاغزه فإنك دمالٌ عليه وبالغ أمنيتك في أدعائك. فقص حينئذٍ هذه الرؤيا على عظماء الروم، فأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابناً له على القسطنطينية وسلك غير الطريق الذي عليه شهربراز وسار حتى أوغل في بلاد أرمينية وقصد الجزيرة فنزل نصيبين، فأرسل إليه كسرى جنداً وأمرهم بالمقام بالموصل، وأرسل إلى شهربراز يستحثه على القدوم ليتضافرا على قتال هرقل.
وقيل في مسيره غير هذا، وهو أن شهربراز سار إلى بلاد الروم فوطئ الشام حتى وصل إلى أذرعات ولقي جيوش الروم فهزمها وظفر بها وسبى وغنم وعظم شأنه.
ثم إن فرخان أخا شهربراز شرب الخمر يوماً وقال: لقد رأيت في المنام كأني جالس في سرير كسرى، فبلغ الخبر كسرى فكتب إلى أخيه شهربراز يأمره بقتله، فعاوده وأعلمه شجاعته ونكايته في العدو، فعاد كسرى وكتب إليه بقتله، فراجعه، فكتب إليه الثالثة، فلم يفعل، فكتب كسرى بعزل شهربراز وولاية فرخان العسكر، فأطاع شهربراز فلما جلس على سرير الإمارة ألقى إليه القاصد بولايته كتاباً صغيراً من كسرى يأمره بقتل شهربراز فعزم على قتله، فقال له شهربراز: أمهلني حتى أكتب وصيتي، فأمهله، فأحضر درجاً وأخرج منه كتب كسرى الثلاثة وأطلعه عليها وقال: أنا راجعت فيك ثلاث مرات ولم أقتلك، وأنت تقتلني في مرة واحدة، فاعتذر أخوه إليه وأعاده إلى الإمارة واتفقا على موافقة ملك الروم على كسرى، فأرسل شهربراز إلى هرقل: إن لي إليك حاجةً لا يبلغها البريد ولا تسعها الصحف، فالقني في خمسين رومياً، فإني ألقاك في خمسين فارسياً. فأقبل قيصر في جيوشه جميعها ووضع عيونه تأتيه بخبر شهربراز، وخاف أن يكون مكيدة، فأتته عيونه فأخبروه أنه في خمسين فارسياً، فحضر عنده في مثلها واجتمعا وبينهما ترجمان فقال له: أنا وأخي خربنا بلادك وفعلنا ما علمت وقد حسدنا كسرى وأراد قتلنا وقد خلعناه ونحن نقاتل معك. ففرح هرقل بذلك واتفقا عليه وقتلا الترجمان لئلا يفشي سرهما، وسار هرقل في جيشه إلى نصيبين.
وبلغ كسرى أبرويز الخبر وأرسل هرقل قائداً من قواده اسمه راهزار في اثني عشر ألفاً، وأمره أن يقيم بنينوى من أرض الموصل على دجلة يمنع هرقل من أن يجوزها، وأقام هو بدسكرة الملك، فأرسل راهزار العيون، فأخبروه أن هرقل في سبعين ألف مقاتل، فأرسل إلى كسرى يعرفه ذلك وأنه يعجز عن قتال هذا الجمع الكثير، فلم يعذره وأمره بقتاله، فأطاع وعبى جنده، وسار هرقل نحو جنود كسرى وقطع دجلة من غير الموضع الذي فيه راهزرا، فقصده راهزار ولقيه فاقتتلوا راهزار وستة آلاف من أصحابه وانهزم الباقون.
وبلغ الخبر أبرويز وهو بدسكرة الملك، فهده ذلك وعاد إلى المدائن وتحصن بها لعجزه عن محاربة هرقل، وكتب إلى قواد الجند الذين انهزموا يتهددهم بالعقوبة فأحوجهم إلى الخلاف عليه، على ما نذكره إن شاء الله. وسار هرقل حتى قارب المدائن ثم عاد إلى بلاده.
وكان سبب عوده أن كسرى لما عجز عن هرقل أعمل الحيلة فكتب كتاباً إلى شهربراز يشكره ويثني عليه ويقول له: أحسنت في فعل ما أمرتك به من مواصلة ملك الروم وتمكينه من البلاد، والآن فقد أوغل وأمكن من نفسه فتجيء أنت من خلفه وأنا من بين يديه ويكون اجتماعنا عليه يوم كذا فلا يفلت منهم أحد. ثم جعل الكتاب في عكاز ابنوس وأحضر راهباً كان في دير عند المدائن وقال له: لي إليك حاجة. فقال الراهب: الملك أكبر من أن يكون له إلي حاجة ولكنني عبده. قال: إن الروم قد نزلوا قريباً منا وقد حفظوا الطرق عنا، ولي إلي أصحابي الذين بالشام حاجة وأنت نصراني إذا جزت على الروم لا ينكرونك، وقد كتبت كتاباً وهو في هذه العكازة فتوصله إلى شهربراز، وأعطاه مائتي دينار. فأخذ الكتاب وفتحه وقرأه ثم أعاده وسار، فلما صار بالعسكر ورأى الروم والرهبان والنواقيس رق قلبه وقال: أنا شر الناس إن أهلكت النصرانية! فأقبل إلى سرادق الملك وأنهى حاله وأوصل الكتاب إليه. فقرأه ثم أحضر أصحابه رجلاً قد أخذوه من طريق الشام قد واطأه كسرى ومعه كتاب قد افتعله على لسان شهربراز إلى كسرى يقول: إنني ما زلت أخادع ملك الروم حتى اطمأن إلي وجاز إلى البلاد كما أمرتني فيعرفني الملك في أي يوم يكون لقاؤه حتى أهجم أنا عليه من ورائه والملك من بين يديه فلا يسلم هو ولا أصحابه، وآمره أن يتعمد طريقاً يؤخذ فيها.
فلما قرأ ملك الروم الكتاب الثاني تحقق الخبر فعاد شبه المنهزم مبادراً إلى بلاده، ووصل خبر عودة ملك الروم إلى شهربراز فأراد أن يستدرك ما فرط منه فعارض الروم فقتل منهم قتلاً ذريعاً وكتب إلى كسرى: إنني عملت الحيلة على الروم حتى صاروا في العراق، وأنفذ من رؤوسهم شيئاً كثيراً. وفي هذه الحادثة أنزل الله تعالى: {آلم غُلِبَتِ الرُّومُ في آَدْنى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} الروم: 1- 3؛ يعني بأدنى الأرض أذرعات، وهي أدنى أرض الروم إلى العرب، وكانت الروم قد هزمت بها في بعض حروبها، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قد ساءهم ظفر الفرس أولاً بالروم لأن الروم أهل كتاب، وفرح الكفار لأن المجوس أميون مثلهم، فلما نزلت هذه الآيات راهن أبو بكر الصديق أبي بن خلف على أن الظفر يكون للروم إلى تسع سنين، والرهن مائة بعير، فغلبه أبو بكر، ولم يكن الرهن ذلك الوقت حراماً، فلما ظفرت الروم أتى الخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية.

.ذكر ما رأى كسرى من الآيات بسبب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فمن ذلك أن كسرى أبرويز سكر دجلة العوراء وأنفق عليها من الأموال ما لا يحصى كثرةً، وكان طاق مجلسه قد بني بنياناً لم ير مثله، وكان عنده ثلاثمائة وستون رجلا من الحزاة من بين كاهن وساحر ومنجم، وكان فيهم رجل من العرب اسمه السايب، بعث به باذان من اليمن، وكان كسرى إذا أحزنه أمر جمعهم فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو.
فلما بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، أصبح كسرى وقد انقصم طاق ملكه من غير ثقل، وانخرقت عليه دجلة العوراء، فلما رأى ذلك أحزنه فقال: انقصم طاق ملكي من غير ثقل، وانخرقت دجلة العوراء شاه بشكست، يقول: الملك انكسر. ثم دعا كهانه وسحاره ومنجميه، وفيهم السايب، فقال لهم: انظروا في هذا الأمر. فنظروا في أمره فأخذت عليهم أقطار السماء وأظلمت الأرض، فلم يمض لهم ما راموه، وبات السايب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض ينظر، فرأى برقاً من قبل الحجاز استطار فبلغ المشرق، فلما أصبح رأى تحت قدميه روضة خضراء، فقال فيما يعتاف: إن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق تخصب عليه الأرض كأفضل ما أخصبت على ملك.
فلما خلص الكهان والمنجمون والسحار بعضهم إلى بعض ورأوا ما أصابهم، ورأى السايب ما رأى، قال بعضهم لبعض: والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمرٍ جاء من السماء، وإنه لنبي بعث أو هو مبعوث يسلب هذا الملك ويكسره، ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم، فاتفقوا على أن يكتموه الأمر وقالوا له: قد نظرنا فوجدنا أن وضع دجلة العوراء وطاق الملك قد وضع على النحوس، فلما اختلف الليل والنهار وقعت النحوس مواقعها فزال كل ما وضع عليها، وإنا نحسب لك حساباً تضع عليه بنيانك فلا يزول، فحسبوا وأمروه بالبناء، فبنى دجلة العوراء في ثمانية أشهر فأنفق عليها أموالاً جليلة حتى إذا فرغ منها قال لهم: اجلس على سورها؟ قالوا: نعم، فجلس في أساورته، فبينما هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته فلم يخرج إلا بآخر رمق. فلما أخرجوه جمع كهانه وسحاره ومنجميه فقتل منهم قريباً من مائة وقال: قربتكم وأجريت عليكم الأرزاق ثم أنتم تلعبون بي! فقالوا: أيها الملك أخطأنا كما أخطأ من قبلنا. ثم حسبوا له وبناه وفرغ منه وأمروه بالجلوس عليه، فخاف فركب فرساً وسار على البناء، فبينما هو يسير انتسفته دجلة فلم يدرك إلا بآخر رمق، فدعاهم وقال: لأقتلنكم أجمعين أو لتصدقونني. فصدقوه الأمر، فقال: ويحكم هلا بينتم لي فأرى فيه رأيي؟ قالوا: منعنا الخوف. فتركهم ولها عن دجلة حين غلبته، وكان ذلك سبب البطائح، ولم تكن قبل ذلك، وكانت الأرض كلها عامرة.
فلما كانت سنة ست من الهجرة أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، فزادت الفرات والدجلة زيادة عظيمة لم ير قبلها ولا بعدها مثلها، فانبثقت البثوق وانتسفت ما كان بناه كسرى، واجتهد أن يسكرها فغلبه الماء، كما بينا، ومال إلى موضع البطائح فطما الماء على الزروع وغرق عدة طساسيج، ثم دخلت العرب أرض الفرس وشغلتهم عن عملها بالحروب واتسع الخرق. فلما كان زمن الحجاج تفجرت بثوق أخر فلم يسدها مضارة للدهاقين لأنه اتهمهم بممالأة ابن الأشعث، فعظم الخطب فيها وعجز الناس عن عملها، فبقيت على ذلك إلى الآن.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: بعث الله إلى كسرى ملكاً وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فلم يرعه إلا به قائماً على رأسه في يده عصاً بالهاجرة في ساعته التي يقيل فيها، فقال: يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل! وانصرف عنه، فدعا بحراسه وحجابه فتغيظ عليهم وقال: من أدخل هذا الرجل؟ فقالوا: ما دخل علينا أحد ولا رأيناه! حتى إذا كان العام المقبل أتاه في تلك الساعة وقال له: أتسلم أو أكسر العصا؟ فقال: بهل بهل! وتغيظ على حجابه وحراسه. فلما كان العام الثالث أتاه فقال: أتسلم أو أكسر العصا؟ فقال: بهل بهل! فكسر العصا ثم خرج. فلم يكن إلا تهور ملكه وانبعاث ابنه والفرس حتى قتوله.
وقال الحسن البصري: قال أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله ما حجة الله على كسرى فيك؟ قال: بعث إليه ملكاً فأخرج يده إليه من جدار تلألأ نوراً، فلما رآها فزع فقال له: لا ترع يا كسرى! إن الله قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك. قال: سأنظر.

.ذكر وقعة ذي قار وسببها:

ذكروا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما بلغه ما كان من ظفر ربيعة بجيش كسرى: هذا أول يوم انتصف العرب فيه من العجو وبي نصروا. فحفظ ذلك منه، وكان يوم الوقعة.
قال هشام بن محمد: كان عدي بن زيد التميمي وأخواه عمار، وهو أبي، وعمرو، وهو سمي، يكونون مع الأكاسرة ولهم إليهم انقطاع، وكان المنذر ابن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي بن زيد، وكان له غير النعمان أحد عشر ولداً، وكانوا يسمون الأشاهب لجمالهم. فلما مات المنذر بن المنذر وخلف أولاده أراد كسرى بن هرمز أن يملك على العرب من يختاره، فأحضر عدي بن زيد وسأله عن أولاد المنذر، فقال: هم رجال، فأمره بإحضارهم. فكتب عدي فأحضرهم وأنزلهم، وكان يفضل إخوة النعمان عليه ويريهم أنه لا يرجو النعمان ويخلو بواحد واحد ويقول له: إذا سألك الملك أتكفونني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلا النعمان. وقال للنعمان: إذا سألك الملك عن إخوتك فقل له: إذا عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز.
وكان من بنيمرينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، وكان داهياً شاعراً، وكان يقول للأسود بن المنذر: قد عرفت أني أرجوك وعيني إليك، وإنني أريد أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله لا ينصح لك أبداً! فلم يلتفت إلى قوله.
فلما أمر كسرى عدي بنزيد أن يحضرهم، أحضرهم رجلاً رجلاً وسألهم كسرى: أتكفونني العرب؟ فقالوا: نعم إلا النعمان. فلما دخل عليه النعمان رأى رجلاً دميماً أحمر أبرش قصيراً فقال له: أتكفيني إخوتك والعرب؟ قال: نعم، وإن عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز. فملكه وكساه وألبسه تاجاً قيمته ستون ألف درهم، فقال عدي بن مرينا للأسود: دونك فقد خالفت الرأي.
ثم صنع عدي بن زيد طعاماً ودعا عدي بن مرينا إليه وقال: إني عرفت أن صاحبك الأسود كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وإني أحب أن لا تحقد علي وإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك، وحلف لابن مرينا أن لا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبداً، فقام ابن مرينا وحلف أنه لا يزال يهجوه ويبغيه الغوائل. وسار النعمان حتى نزل الحيرة، وقال ابن مرينا للأسود: إذا فاتك الملك فلا تعجز أن تطلب بثأرك من عدي فإن معداً لا ينام مكرهاً، وأمرتك بمعصيته فخالفتني، وأريد أن لا يأتيك من مالك شيء إلا عرضته علي. ففعل.
وكان ابن مرينا كثير المال، وكان لا يخلي النعمان يوماً من هدية وطرفة، فصار من أكرم الناس عليه، وكان إذا ذكر عدي بن زيد وصفه وقال: إلا أنه في مكر وخديعة، واستمال أصحاب النعمال، فمالوا إليه، وواضعهم على أن قالوا للنعمان: إن عدي بن زيد يقول إنك عامله، ولم يزالوا بالنعمان حتى اضغنوه عليه، فأرسل إلى عدي يستزيره، فاستأذن عدي كسرى في ذلك، فأذن له، فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه ومنع من الدخول عليه، فجعل عدي يقول الشعر وهو في السجن، وبلغ النعمان قوله فندم على حبسه إياه وخاف منه إذا أطلقه.
فكتب عدي إلى أخيه أبي أبياتاً يعلمه بحاله، فلما قرأ أبياته وكتابه كلم كسرى فيه، فكتب إلى النعمان وأرسل رجلاً في إطلاق عدي، وتقدم أخو عدي إلى الرسول بالدخول إلى عدي قبل النعمان، ففعل ودخل على عدي وأعلمه أنه أرسل لإطلاقه، فقال له عدي: لا تخرج من عندي وأعطني الكتاب حتى أرسله، فإنك إن خرجت من عندي قتلني، فلم يفعل، ودخل أعداء عدي على النعمان فأعلموه الحال وخوفوه من إطلاقه، فأرسلهم إليه فخنقوه ثم دفنوه.
وجاء الرسول فدخل على النعمان بالكتاب فقال: نعم وكرامةً، وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية وقال: إذا أصبحت ادخل إليه فخذه. فلما أصبح الرسول غدا إلى السجن فلم ير عدياً، وقال له الحرس: إنه مات منذ أيام. فرجع إلى النعمان وأخبره أنه رآه بالأمس ولم يره اليوم، فقال: كذبت! وزاده رشوة واستوثق منه أن لا يخبر كسرى، إلا أنه مات قبل وصوله إلى النعمان. قال: وندم النعمان على قتله، واجترأ أعداء عدي على النعمان وهابهم هيبة شديدة. فخرج النعمان في بعض صيده، فرأى ابناً لعدي يقال له زيد فكلمه وفرح به فرحاً شديداً واعتذر إليه من أمر أبيه وسيره إلى كسرى ووصفه له وطلب إليه أن يجعله مكان أبيه، ففعل كسرى، وكان يلي ما يكتب إلى العرب خاصة، وسأله كسرى عن النعمان فأحسن الثناء عليه وأقام عند الملك سنوات بمنزلة أبيه، وكان يكثر الدخول على كسرى.
وكان لملوك الأعاجم صفة للنساء مكتوبة عندهم، وكان يبعثون في طلب من يكون على هذه الصفة من النساء ولا يقصدون العرب، فقال له زيد بن عدي: إني أعرف عند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال: فتكتب فيهن. قال: أيها الملك إن شر شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرمون بأنفسهم عن العجم، فأنا أكره أن تعنتهن، وإن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك، فابعثني وابعث معي رجلاً يفقه العربية، فبعث معه رجلاً جلداً، فخرجا حتى بلغا الحيرة ودخلا على النعمان. قال له زيدك إن الملك احتاج إلى نساء لأهله وولده وأراد كرامتك فبعث إليك. قال: وما هؤلاء النسوة؟ قال: هذه صفتهن قد جئنا بها.
وكانت الصفة أن المنذر أهدى إلى أنوشروان جارية أصابها عند الغارة على الحارث بن أبي شمر الغساني، وكتب يصفها أنها معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، وطفاء، قمراء، دعجاء، حوراء، عيناء، قنواء، شماء، شمراء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد، جثيلة الشعر، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طي البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المنكبين، عظيمة الركبة، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموع للسيد، ليست بحلساء ولا سفعاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تغذ في بؤس، حييه، رزينة، زكية، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صنا الكفيين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، ويحمر خداها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة.
فقبلها كسرى وأمر بإثبات هذه الصفة، فبقيت إلى أيام كسرى بن هرمز. فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان، فشق ذلك عليه وقال لزيد، والرسول يسمع: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم؟! قال الرسول لزيد: ما العين؟ قال: البقر.
وأنزلهما يومين وكتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي. وقال لزيد: اعذرني عنده.
فلما عاد إلى كسرى قال لزيد: أين ما كنت أخبرتني؟ قال: قد قلت للملك وعرفته بخلهم بنسائهم على غيرهم وأن ذلك لشقائهم وسوء اختيارهم، وسل هذا الرسول عن الذي قال، فإني أكرم الملك عن ذلك. فسأل الرسول، فقال: إنه قال: أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟ فعرف الغضب في وجهه ووقع في قلبه وقال: رب عبدٍ أراد ما هو أشد من هذا فصار مره إلى التباب.
وبلغ هذا الكلام النعمان، وسكت كسرى على ذلك أشهراً والنعمان يستعد، حتى أتاه كتاب كسرى يستدعيه. فحين وصل الكتاب أخذ سلاحه وما قوي عليه ثم لحق بجبلي طيء، وكان متزوجاً إليهم، وطلب منهم أن يمنعوه. فأبوا عليه خوفاً من كسرى، فأقبل وليس أحد من العرب يقبله حتى نزل في ذي قار في بني شيبان سراً، فلقي هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو الشيباني وكان سيداً منيعاً، والبيت من ربيعة في آل ذي الجدين لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين، وكان كسرى قد أطعمه الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئاً يمنعه مما يمنع منه أهله، فأودعه أهله وماله، وفيه أربعمائة درع، وقيل ثمانمائة درع.
وتوجه النعمان إلى كسرى فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال: انج نعيم. فقال: أنت يا زيد فعلت هذا! أما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك. فقال به زيدك امض نعيم فقد والله وضعت لك عنده أخية لا يقطعها المهر الأرن.
فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى خانقين حتى وقع الطاعون فمات فيه، قال: والناس يظنون أنه مات بساباط ببيت الأعشى وهو يقول:
فذاك وما أنجى من الموت ربّه ** بساباط حتى مات وهو محرزق

وكان موته قبل الإسلام.
فلما مات استعمل كسرى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان، وكان كسرى اجتاز به لماء سار إلى ملك الروم فأهدى له هدية، فشكر ذلك له وأرسل إليه، فبعث كسرى بأن يجمع ما خلفه النعمان ويرسله إليه، فبعث إياس إلى هانئ بن مسعود الشيباني يأمره بإرساله ما استودعه النعمان، فأبى هانئ أن يسلم ما عنده. فلما أبى هانئ غضب كسرى، وعنده النعمان بن زرعة التغلبي، وهو يحب هلاك بكر بن وائل، فقال لكسرى: أمهلهم حتى يقيظوا ويتساقطوا على ذي قار تساقط الفراش في النار فتأخذهم كيف شئت. فصبر كسرى حتى جاؤوا حنو ذي قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيرهم واحدة من ثلاث: إما أن يعطوا بأيديهم، وإما أن يتركوا ديارهم، وإما أن يحاربوا. فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة العجلي، فاشار بالحرب، فآذنوا الملك بالحرب، فأرسل كسرى إياس بن قبيصة الطائي أمير الجيش ومعه مرازبة الفرس والهامرز النسوي وغيره من العرب تغلب وإياد وقيس بن مسعود بن قيس بن ذي الجدين، وكان على طف سفوان، فأرسل الفيول، وكان قد بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فقسم هانئ ابن مسعود دروع النعمان وسلاحه.
فلما دنت الفرس من بني شيبان قال هانئ بن مسعود: يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم في قتال كسرى فاركنوا إلى الفلاة، فسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة العجلي وقال: يا هانئ أردت نجاءنا فألقيتنا في الهلكة، ورد الناس وقطع وضن الهوادج، وهي الحزم للرحال، فسمي مقطع الوضن، وضرب على نفسه قبة، وأقسم أن لا يفر حتى تقر القبة، فرجع الناس واستقوا ماء لنصف شهر. فأتتهم العجم فقاتلتهم بالحنو، فانهزمت العجم خوفاً من العطش إلى الجبابات، فتبعتهم بكرٌ وعجلٌ وأبلت يومئذٍ بلاء حسناً، واضطمت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل، ثم حملت بكر فوجدت عجلاً تقاتل وامرأة منهم تقول:
إن يظفروا يحرّزوا فينا الغرل ** إيهاً فداءٌ لكم بني عجل

فقاتلوهم ذلك اليوم، ومالت العجم إلى بطحاء ذي قار خوفاً من العطش، فأرسلت إياد إلى بكر، وكانوا مع الفرس، وقالوا لهم: إن شئتم هربنا الليلة وإن شئتم أقمنا ونفر حين تلاقون الناس. فقالوا: بل تقيمون وتنهزمون إذا التقينا. وقال زيد بن حسان السكوني، وكان حليفاً لبني شيبان: أطيعوني واكنوا لهم، ففعلوا ثم تقاتلوا وحرض بعضهم بعضاً، وقالت ابنة القرين الشيبانية:
ويهاً بني شيبان صفّاً بعد صفّ ** إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف

فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبهم لتخف أيديهم لضرب السيوف، فجالدوهم وبارز الهامرز، فبرز إليه برد بن حارثة اليشكري فقتله برد، ثم حملت مسيرة بكر وميمنتها وخرج الكمين فشدوا على قلب الجيش وفيهم إياس بن قبيصة الطائي، وولت إياد منهزمة كما وعدتهم، فانهزمت الفرس واتبعتهم بكر تقتل ولا تلتفت إلى سلب وغنيمة. وقال الشعراء في وقعة ذي قار فأكثروا.